محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الجفاة والغلاة
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أصل عظيم من أصول الإسلام، وشرط من شروط صحة الإيمان، قال الله تعالى (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة: 24)
فلا يجوز أن يكون حب أي عرض من أعراض الدنيا مقدماً على محبة الله ورسوله، والرسول صلى الله عليه وسلم ينفى الإيمان عمن لم يجعل محبته مقدمة على محبة الأهل والمال والولد فيقول:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". أخرجه البخاري/15. وحين قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لأنت أحبّ إلىّ من كل شيء إلا من نفسي. أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:" لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال عندها عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الآن يا عمر". البخاري/ 6632. وحين سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآباؤنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ".
وحيث إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم عبادة لله وقربة يتقرب بها المسلم إلى ربه فلا بد فيها من تحقيق شروط قبول العبادة وهي:
1- الإخلاص فيها لله سبحانه وتعالى وابتغاء وجهه.
2- ثم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والالتزام بسنته وهديه وأن يعبد الله بما شرع لا بالأهواء والبدع. عملاً بقوله تعالى
فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً). والعمل الصالح هو العمل الموافق للسنة والعمل الخالي من الشرك هو العمل الخالص لله سبحانه والبريء من الرياء والسمعة.
ولقد ضل في باب محبة النبي صلى الله عليه وسلم طائفتان كبيرتان من الطوائف المنتسبة للإسلام، طائفة الجفاة، وقد مثلها في الماضي المعتزلة الذين قدموا عقولهم على نصوص الوحي وحاكموا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أقيستهم وأهوائهم، فما وافقها قبلوه وما خالفها ردوه - بحجة أنه خبر آحاد مع أن أغلب أحكام الشريعة إنما جاءت من طريق الآحاد - أو تأولوه وحرفوا دلالته إلى ما يوافق رأيهم ومذهبهم، وقد وصل الغلو بأحد رؤوسهم وأئمتهم عمر بن عبيد أن قال عن حديث الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يأتيه الملك فيؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.... قال: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أجبته، ولو سمعت عبد الله ابن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله تعالى يقول هذا لقلت له: ليس على هذا أخذت ميثاقنا".
وقد ورثت فلسفة المعتزلة ومهجها في أيامنا هذه من نعتوا أنفسهم بالحداثيين والعصرانيين والمتورين الذين بهرتهم الحضارة الغربية وعلمانيتها المتحللة من الدين والمعادية له فآلوا على أنفسهم أن يبرزوا الإسلام بصورةٍ موافقة للفكر الغربي العلماني واضطروا لتحقيق غرضهم أن يضعوا قواعد و يؤصلوا أصولاً للتعامل مع نصوص الشرع لم تخطر ببال الأولين تسبب عنها إسقاط مئات الأحاديث المتعلقة بسير الحياة اليومية للإنسان في أكله وشربه ولبسه وتجارته وعلاقته بالآخرين بزعم أنها أحاديث خاصة بالبيئة العربية التي عاش فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لها صفة الشمول والثبات وفهموا الإسلام على أنه جملة من القيم والمثل العليا وقوانين الحق والعدل التي يشكلها الإنسان حسب ما يتناسب مع عصره وبيئته، والآيات والأحاديث المتعلقة بالأمور التفصيلية ليست ملزمة للمسلم بل هي للاستئناس يأخذ منها المسلم ما يحقق مصلحته ويترك ما يعارضها، وهناك جفاة لا يصل جفاؤهم إلى هذا الحدّ إلا أنهم لا يتهيبون من ردّ الحديث الصحيح إذا عارض مذهبهم أو خالف توجهاتهم الفكرية متجاهلين خطورة هذا المسلك ومتناسين تحذيرات السلف من هذا التوجه من مثل قول الإمام أحمد رحمه الله:"من ردّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة". وقول الإمام البربهاري:" الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار أو يريد الآثار فاتهمه على الإسلام و لا تشك أنه صاحب هوى مبتدع".
ويقابل الجفاة الذين تقدم الحديث عنهم طوائف الغلاة وما أكثرهم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم والذين أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم تنبىء أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم مجرد عاطفة متعلقة بالوجدان تفرغ على شكل احتفالات وقصائد وأناشيد دون أن تلزم أصحابها بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباع هديه وسنته والدفاع عن دينه وتحكيم شرعه.
وقد وصل الغلو عند كثير من هؤلاء إلى مناقضة كتاب الله سبحانه ومخالفة صريح أمره وخبره والوقوع في الشرك الأكبر والعياذ بالله.
فرغم الآيات القاطعة والأحاديث الصريحة التي تنهى عن الغلو في الدين ورفع النبي صلى الله عليه وسلم فوق منزلته التي أنزله الله إياها مثل قوله تعالى:{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه}. وقوله عليه الصلاة والسلام
لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله). إلا أن طوائف من الأمة أبوا إلا أن يقعوا فيما وقعت فيه النصارى. فزعم بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشراً بل هو نور خلقه الله من نور وجهه وقالوا إن قوله تعالى:{قل إنما أنا بشر مثلكم ....} قد قرأها الناس قراءةً خاطئةً وإن القراءة الصحيحة لها قل إن ما أنا بشر مثلكم، فهي تؤكد على نفي بشرية النبي صلى الله عليه وسلم.
وعليه نسمع في بعض الأناشيد قولهم رب خلقت طه من نور ، ويزعم هؤلاء أن أول الكائنات على الاطلاق هي روح محمد و منها صدرت سائر المخلوقات وهذا ما يعبرون عنه بالحقيقة المحمدية وبقولهم إنه صلى الله عليه وسلم إنسان عين الوجود والسبب في كل موجود وأنه مظهر لصفات الله، وكم سمعنا من مؤذن يقول يا أول خلق الله وخاتم رسل الله مع أن هذا مناقض لصريح قوله صلى الله عليه وسلم:" أول ما خلق الله القلم".
ومن المغالاة المرفوضة زعم البعض أن الكون ما خلق إلا من أجل محمد صلى الله عليه وسلم وينسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثاً مكذوباً يقول:" لولاك ما خلقت الأفلاك". مع مناقضته لصريح قوله تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
ومن غلوهم ومبالغاتهم الباطلة زعمهم أن يوم مولده صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر وأن روحه تحضر الموالد ولذلك يقومون عندما يصل قارىء السيرة إلى لحظة ولادته وأنه حي حياة كاملة وأنه يكلم الأولياء وهذا يناقض العقل والنقل المؤكد لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.
ومن مبالغاتهم الممجوجة زعمهم أن نعل النبي صلى الله عليه وسلم على رؤوس الكائنات قال شاعرهم:
على رأس هذا الكون نعل محمد *** سمت فجميع الخلق تحت ظلاله
لدى الطور موسى نودي اخلع *** وأحمد إلى العرش لم يؤمر بخلع نعاله
ما قيمة هذا الكلام وما دليله من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن المغالاة المناقضة للقرآن الكريم زعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب وفي هذا يقول البوصيري:
وإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم
ومن غلوهم زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام الواسطة والأصل في كل رحمة تحل بالوجود ورتبوا على ذلك اللجوء إليه صلى الله عليه وسلم لكشف الكريات واستنزال الرحمات:
يقوي البكري في لاميته!
ما أرسل الرحمن أو يرسل *** من رحمة تصعد أو تنزل
في ملكوت الله أو ملكه *** من كل ما يختص أو يشمل
إلا وطه المصطفى *** عبده نبيه مختاره المرسل
واسطة فيها وأصل لها *** يعلم هذا كل من يعقل
فلذ به به من كل ما تشتكي *** فهو شفيع دائماً يقبل
ولذ به من كل ما ترتجي *** فإنه المأمل والمعقل
يا أكرم الخلق على ربه *** وخير من فيهم يسأل
كم مسني الكرب و كم مرة *** فرجت كرباً بعضه يُذهل
فبالذي خصك بين الورى *** برتبة عنه العلى تنزل
عجل بإذهاب الذي اشتكى *** فإن توقفت فمن الذي أسأل
وشرعوا لمن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستجير به ويرجوه ويتضرع خاشعاً بين يديه فقالوا: الأدب أن يأتي الإنسان لقبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتوب من الذنوب والخطايا ثم يقول يا رسول قد ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وأتيت بجهلي وخطئي وزراً كبيراً ووفدت إليك مستجيراً.
وهكذا نرى أن الغلو فيه عليه الصلاة والسلام والإنسياق خلف العواطف الجياشة دون الإنضباط بالضوابط الشرعية قد أوقع شرائح واسعة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الشرك الأكبر والعياذ بالله حيث خلعوا عليه صلى الله عليه وسلم الكثير من صفات الرب سبحانه وتعالى بزعم حبه وتوقيره وهل وقع النصارى فيما وقعوا فيه في عيسى عليه السلام إلا بزعم حبه وتقديره.
وليس لأحد نجاة إلا بسلوك منهج الوسطية الذي تقوم عليه الشريعة الإسلامية.